فصل: (سورة طه: آية 112):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة طه: آية 112]:

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (112)}.
الظلم: أن يأخذ من صاحبه فوق حقه. والهضم: أن يكسر من حق أخيه فلا يوفيه له، كصفة المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ويسترجحون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. أي: فلا يخاف جزاء ظلم ولا هضم، لأنه لم يظلم ولم يهضم. وقرئ: فلا يخف، على النهى.

.[سورة طه: آية 113]:

{وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)}.
{وَكَذلِكَ} عطف على {كَذلِكَ نَقُصُّ} أي: ومثل ذلك الإنزال، وكما أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المضمنة للوعيد أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة، مكرّرين فيه آيات الوعيد، ليكونوا على رجاء التقوى والتذكر، وإلا فلو أراد للّه من جميعهم التقوى لوقعت. وقد تقدمت أمثالها. والعجب أنه نقل عن سيبويه في تفسير لعل أول هذه السورة عند قوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى} أن معناه: كونا على رجائكما، ثم رجع عن ذلك هاهنا لأن المعتقد الفاسد يحذوه إلى هذا التأويل الباطل، واللّه الموفق.
ليكونوا بحيث يراد منهم ترك المعاصي أو فعل الخير والطاعة. والذكر- كما ذكرنا- يطلق على الطاعة والعبادة. وقرئ: نحدث وتحدث، بالنون والتاء، أي: تحدث أنت. وسكن بعضهم الثاء للتخفيف، كما في:
فاليوم أشرب غير مستحقب ** إثما من اللّه ولا واغل

.[سورة طه: آية 114]:

{فَتعالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)}.
{فَتعالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} استعظام له ولما يصرف عليه عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده والإدارة بين ثوابه وعقابه على حسب أعمالهم، وغير ذلك مما يجرى عليه أمر ملكوته ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد: وإذا لقنك جبريل ما يوحى إليك من القرآن، فتأنّ عليك ريثما يسمعك ويفهمك، ثم أقبل عليه بالتحفظ بعد ذلك، ولا تكن قراءتك مساوقة لقراءته. ونحوه قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} وقيل معناه: لا تبلغ ما كان منه مجملا حتى يأتيك البيان. وقرئ: {حتى تقضى إليك وحيه} وقوله تعالى: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} متضمن للتواضع للّه تعالى والشكر له عند ما علم من ترتيب التعلم، أي علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم وأدبا جميلا ما كان عندي، فزدني علما إلى علم، فإنّ لك في كل شيء حكمة وعلما.
وقيل: ما أمر اللّه رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.

.[سورة طه: آية 115]:

{وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)}.
يقال في أوامر الملوك ووصاياهم: تقدّم الملك إلى فلان وأوعز إليه، وعزم عليه، وعهد إليه. عطف اللّه سبحانه قصة آدم على قوله: {وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} والمعنى: وأقسم قسما لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة، وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها، وذلك من قبل وجودهم ومن قبل أن نتوعدهم، فخالف إلى ما نهى عنه، وتوعد في ارتكابه مخالفتهم، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون، كأنه يقول: إنّ أساس أمر بنى آدم على ذلك، وعرقهم راسخ فيه. فإن قلت: ما المراد بالنسيان؟ قلت يجوز أن يراد النسيان الذي هو نقيض الذكر، وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة، ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس، حتى تولد من ذلك النسيان. وأن يراد الترك وأنه ترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها. وقرئ: فنسي، أي: نساه الشيطان. العزم: التصميم والمضىّ على ترك الأكل، وأن يتصلب في ذلك تصلبا يؤيس الشيطان من التسويل له. والوجود: يجوز أن يكون بمعنى العلم، ومفعولاه {لَهُ عَزْمًا} وأن يكون نقيض العدم كأنه قال: وعدمنا له عزما.

.[سورة طه: آية 116]:

{وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116)}.
{إِذْ} منصوب بمضمر، أي: واذكر وقت ما جرى عليه من معاداة إبليس ووسوسته إليه وتزيينه له الأكل من الشجرة، وطاعته له بعد ما تقدّمت معه النصيحة والموعظة البليغة والتحذير من كيده، حتى يتبين لك أنه لم يكن من أولى العزم والثبات. فإن قلت: إبليس كان جنيا بدليل قوله تعالى: {كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} فمن أين تناوله الأمر وهو للملائكة خاصة؟ قلت كان في صحبتهم، وكان يعبد اللّه تعالى عبادتهم، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له، كان الجنى الذي معهم أجدر بأن بتواضع، كما لو قام لمقبل على المجلس علية أهله وسراتهم، كان القيام على واحد بينهم هو دونهم في المنزلة أوجب، حتى إن لم يقم عنف. وقيل له: قد قام فلان وفلان، فمن أنت حتى تترفع عن القيام؟ فإن قلت: فكيف صحّ استثناؤه وهو جنى عن الملائكة؟ قلت: عمل على حكم التغليب في إطلاق اسم الملائكة عليهم وعليه، فأخرج الاستثناء على ذلك، كقولك: خرجوا إلا فلانة، لامرأة بين الرجال أَبى جملة مستأنفة، كأنه جواب قائل قال: لم لم يسجد. والوجه أن لا يقدّر له مفعول، وهو السجود المدلول عليه بقوله: {فَسَجَدُوا} وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف وتثبط.

.[سورة طه: آية 117]:

{فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117)}.
{فَلا يُخْرِجَنَّكُما} فلا يكونن سببا لإخراجكما. وإنما أسند إلى آدم وحده فعل الشقاء دون حوّاء بعد إشراكهما في الخروج، لأنّ في ضمن شقاء الرجل وهو قيم أهله وأميرهم شقاءهم، كما أنّ في ضمن سعادته سعادتهم، فاختصر الكلام بإسناده إليه دونها. مع المحافظة على الفاصلة.
أو أريد بالشقاء التعب في طلب القوت، وذلك معصوب برأس الرجل وهو راجع إليه. وروى أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق من جبينه. قرئ: {وَأَنَّكَ} بالكسر والفتح. ووجه الفتح العطف على {أَلَّا تَجُوعَ}. فإن قلت: إنّ لا تدخل على أن، فلا يقال: إنّ أن زيدا منطلق، والواو نائبة عن إنّ وقائمة مقامها فلم أدخلت عليها؟ قلت: الواو لم توضع لتكون أبدا نائبة عن إنّ، إنما هي نائبة عن كل عامل، فلما لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق خاصة- كإن- لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع إنّ وأن.

.[سورة طه: الآيات 118- 119]:

{إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)}.
الشبع والرىّ والكسوة والكنّ: هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان، فذكره استجماعها له في الجنة، وأنه مكفى لا يحتاج إلى كفاية كاف ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا، وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعرى والظمأ والضحو، ليطرق سمعه بأسامى أصناف الشقوة التي حذره منها، حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها.

.[سورة طه: آية 120]:

{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120)}.
فإن قلت: كيف عدى وسوس تارة باللام في قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ} وأخرى بإلى؟
قلت: وسوسة الشيطان كولولة الثكلى ووعوعة الذئب ووقوفة الدجاجة، في أنها حكايات للأصوات وحكمها حكم صوت وأجرس. ومنه: وسوس المبرسم، وهو موسوس بالكسر.
والفتح لحن. وأنشد ابن الأعرابى:
وسوس يدعو مخلصا ربّ الفلق

فإذا قلت: وسوس له، فمعناه لأجله، كقوله:
أجرس لها يا ابن أبى كباش

ومعنى {وسوس إليه} أنهى إليه الوسوسة، كقولك. حدّث إليه. وأسرّ إليه. أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود، لأن من أكل منها خلد بزعمه، كما قيل لحيزوم: فرس الحياة، لأنّ من باشر أثره حيي {وَمُلْكٍ لا يَبْلى} دليل على قراءة الحسن بن على وابن عباس رضي اللّه عنهم: {إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ} بالكسر.

.[سورة طه: آية 121]:

{فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121)}.
طفق يفعل كذا مثل: جعل يفعل، وأخذ، وأنشأ. وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلا مضارعا، وبينها وبينه مسافة قصيرة هي للشروع في أوّل الأمر. وكاد لمشارفته والدنوّ منه. قرئ {يَخْصِفانِ} للتكثير والتكرير، من خصف النعل وهو أن يخرز عليها الخصاف، أي: يلزقان الورق بسوآتهما للتستر وهو ورق التين. وقيل كان مدورا فصار على هذا الشكل من تحت أصابعهما. وقيل كان لباسهما الظفر، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع. عن ابن عباس: لا شبهة في أنّ آدم لم يمتثل ما رسم اللّه له، وتخطى فيه ساحة الطاعة، وذلك هو العصيان. ولما عصى خرج فعله من أن يكون رشدا وخيرا، فكان غيا لا محالة، لأنّ الغى خلاف الرشد، ولكن قوله: {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى} بهذا الإطلاق وبهذا التصريح، وحيث لم يقل: وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك، مما يعبر به عن الزلات والفرطات: فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة، وكأنه قيل لهم: انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم حبيب اللّه الذي لا يجوز عليه إلا اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلطة وبهذا اللفظ الشنيع، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات والصغائر، فضلا أن تجسروا على التورّط في الكبائر. وعن بعضهم {فَغَوى} فبشم من كثرة الأكل، وهذا- وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفا فيقول في فنى، وبقي: فنا، وبقا وهم بنو طىّ- تفسير خبيث.

.[سورة طه: آية 122]:

{ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122)}.
فإن قلت: ما معنى {ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ}؟ قلت: ثم قبله بعد التوبة وقرّبه إليه، من جبى إلىّ كذا فاجتبيته. ونظيره: جليت علىّ العروس فاجتليتها. ومنه قوله عز وجل: {وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها} أي هلا جبيت إليك فاجتبيتها. وأصل الكلمة الجمع. ويقولون: اجتبت الفرس نفسها إذا اجتمعت نفسها راجعة بعد النفار. وهَدى أي وفقه لحفظ التوبة وغيره من أسباب العصمة والتقوى.

.[سورة طه: آية 123]:

{قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123)}.
لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلى البشر، والسببين اللذين منهما نشؤا وتفرعوا: جعلا كأنهما البشر في أنفسهما، فخوطبا مخاطبتهم، فقيل {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} على لفظ الجماعة.
ونظيره إسنادهم الفعل إلى السبب، وهو في الحقيقة للمسبب هُدىً كتاب وشريعة. وعن ابن عباس: ضمن اللّه لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا قوله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى} والمعنى أنّ الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضلّ في الدنيا عن طريق الدين فمن اتبع كتاب اللّه وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه.

.[سورة طه: الآيات 124- 126]:

{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126)}.
الضنك: مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث. وقرئ {ضَنْكًا} على فعلى. ومعنى ذلك: أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على اللّه وعلى قسمته فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح وسهولة، فيعيش عيشا رافغا كما قال عز وجل: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً} والمعرض عن الدين، مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك وحاله مظلمة، كما قال بعض المتصوّفة: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوّش عليه رزقه. ومن الكفرة من ضرب اللّه عليه الذلة والمسكنة لكفره: قال اللّه تعالى {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ} وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} وقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} وقال: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرارًا} وقال: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقًا} وعن الحسن: هو الضريع والزقوم في النار. وعن أبى سعيد الخدري: عذاب القبر. وقرئ {وَنَحْشُرُهُ} بالجزم عطفا على محل {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} لأنه جواب الشرط.
وقرئ: ونحشره، بسكون الهاء على لفظ الوقف، وهذا مثل قوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} وكما فسر الزرق بالعمى كَذلِكَ أي مثل ذلك فعلت أنت، ثم فسر بأن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة، فلم تنظر إليها بعين المعتبر ولم تتبصر، وتركتها وعميت عنها، فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك.

.[سورة طه: آية 127]:

{وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127)}.
لما توعد المعرض عن ذكره بعقوبتين: المعيشة الضنك في الدنيا، وحشره أعمى في الآخرة- ختم آيات الوعيد بقوله: {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى} كأنه قال: وللحشر على العمى الذي لا يزول أبدا أشدّ من ضيق العيش المنقضى. أو أراد: ولتركنا إياه في العمى أشدّ وأبقى من تركه لآياتنا.

.[سورة طه: آية 128]:

{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128)}.
فاعل فَلَمْ {يَهْدِ} الجملة بعده يريد: ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه. ونظيره قوله تعالى: {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ} أي تركنا عليه هذا الكلام. ويجوز أن يكون فيه ضمير اللّه أو الرسول، ويدل عليه القراءة بالنون. وقرئ {يَمْشُونَ} يريد أنّ قريشا يتقلبون في بلاد عاد وثمود {ويمشون فِي مَساكِنِهِمْ} ويعاينون آثار هلاكهم.

.[سورة طه: آية 129]:

{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)}.
الكلمة السابقة: هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة، يقول: لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عادا وثمودا لازما لهؤلاء الكفرة. واللزام: إما مصدر لازم وصف به، وإما فعال بمعنى مفعل، أي ملزم، كأنه آلة اللزوم لفرط لزومه، كما قالوا: لزاز خصم {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} لا يخلو من أن يكون معطوفا على {كَلِمَةٌ} أو على الضمير في لَكانَ أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل.

.[سورة طه: آية 130]:

{فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130)}.
{بِحَمْدِ رَبِّكَ} في موضع الحال، أي: وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه. والمراد بالتسبيح الصلاة. أو على ظاهره قدم الفعل على الأوقات أوّلا، والأوقات على الفعل آخرا، فكأنه قال: صل للّه قبل طلوع الشمس يعنى الفجر، وقبل غروبها يعنى الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها، وتعمد آناء الليل وأطراف النهار مختصا لهما بصلاتك، وذلك أن أفضل الذكر ما كان بالليل، لاجتماع القلب وهدو الرجل والخلو بالرب. وقال اللّه عز وجل: {إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} وقال: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِدًا وَقائِمًا} ولأنّ الليل وقت السكون والراحة، فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أدخل في معنى التكليف وأفضل عند اللّه. وقد تناول التسبيح في آناء الليل صلاة العتمة، وفي أطراف النهار صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار، إرادة الاختصاص، كما اختصت في قوله: {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى} عند بعض المفسرين. فإن قلت: ما وجه قوله: {وَأَطْرافَ النَّهارِ} على الجمع، وإنما هما طرفان كما قال: {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ}؟ قلت: الوجه أمن الإلباس، وفي التثنية زيادة بيان. ونظير مجيء الأمرين في الآيتين: مجيئهما في قوله:
ظهراهما مثل ظهور الترسين

وقرئ: وأطراف النهار، عطفا على آناء الليل، ولعل للمخاطب، أي: اذكر اللّه في هذه الأوقات، طمعا ورجاء أن تنال عند اللّه ما به ترضى نفسك ويسر قلبك. وقرئ: ترضى، أي يرضيك ربك.